الخميس، 6 فبراير 2014

"بين اللقاء والفراق"




"بين اللقاء والفراق"
حين أفكر بما مر سابقاً ، من ساعات الرخاء ، و ساعات الشدة ، لازلت أشعر بأنها الافضل ، لازلت أشعر بأن تلك الأوقات كانت أجمل لحظات عمري و الأبقى في ذكراي ، لن تعود مجدداً ، مع أنني طالما أردت أن تدوم أطول ، و تبقى و تستمر ، و لكن شاء القدر و افترقنا ،"أريدك أن تبقي معيقريبةً منيلا تتركيني لوحديلا أستطيع تخيل العالم بدونك ، فقط إبقى بجانبي " هذا ما أردت قوله قبل فراقنا . ذكرياتي معك هي كنزي الثمين الذي دفن في ذهني و كأنه نقش على حجر ، إنها لحظات " بين اللقاء و الفراق ".



" صبآآح العاشر من فبراير " 
صوت منبه يعلو ، تمتد يد عريضة من تحت البطانية و تأخذ المنبه إلى تحت البطانية ، ليخرج من تحتها رأس بشعر أشعث. يتحرك باتجاه النافذة و يفتحها ، حيث رأى غيوم سوداء تغطي أشعة الشمس التي تتداخل ما بين الغيوم لتتنفس ، نظر إلى التقويم بالقرب من باب الغرفة يحك رأسه و يتمتم : انه مثل ذلك اليوم ، هاه ؟ 
يتجه إلى الحمام و يحلق ذقنه و يقص شعره . يأخذ فرشاته و ينظف اسنانه . يبدل ملابسه و يرتدي بدلة رسمية ، يتجه إلى المطبخ و يحمص الخبز ، و إلى أن يجهز الخبز ، يعد له القهوة بالمكينة الفورية ، يشغل التلفاز و قد عرض على شاشته أحوال الطقس .

: بثينة ، إنه العاشر من فبراير مجدداً ، آسف لكن لم أجد بعد عملاً مناسباً لي كما طلبتِ ، لا أستطيع إيقاف شغفي عن التأليف و الكتابة ، انتظري سأتي إليكِ اليوم

صوت ماكينة تحميص الخبز و يليه بثوان صوت يشير إلى ان القهوة قد جهزت ، تناول فطوره و أغلق التلفاز ثم ارتدى حذاءه و خرج.

: بثينة ، لطالما اعتقدت أنكِ مجرد ساذجة منذ أول مرة التقيت بكِ ، كنتِ تتعثرين كثيراً في ممرات المدرسة ، و دائماً ما تصدمين بالجدار ،في المرة الاولى التي حدثتني فيها أذكر انكِ جئتِ إليّ و قلتِ " صديقتي أعجبت بكتاباتك رائعة " لكنك في الحقيقة انت من كانت تعجبها كتاباتي ، لأنك كنتِ الوحيدة التي تقرأ كتاباتي التي كنت أعلقها. استمريتِ على هذا الحال و تقولين ان صديقتك هي التي أعجبتها كتاباتي و أنني يجب أن أصبح مؤلفاً، قولك هذا يجعلني أشعر بالسعادة ، لكنني تمنيت حقاً أن تقولي أنك انتِ من أعجبتِ بكتاباتي . و سرعان ما تحققت أمنيتي و تحولت إلى شيء لم أتوقعه ابداً ، بل كان أفضل مما تمنيت ، شعرت بأنكِ نطقتيبما كان في داخلي ، ما زلت اذكر وجهكِ الخجل و صوتك المنخفض يقول " أحبك " ، لم أصدق ما سمعته حتى أنني استمريت أحدق بك لدقائق . تذكر هذه الامور يجعلني أضحك على نفسي ، كنت كدودة الكتب و عاشق الدفاتر و الاقلام و كأنني آلة صممت للكتابة فقط .



" باقة من الخزامى " 
يتوقف عند محل الازهار ، يفتح الباب و يُقرع ذلك الجرس المعلق على الباب ، ينادي على وسام ، فإذا بشاب و بيده باقة من الخزامى الزرقاء 
وسام برسمية مفتعلة : صباح الخير ، هاهو طلبك ، سيد فادي 
فادي يجاري وسام : شكراً ، تفضل الحساب 
يتجه إلى طاولة ليحاسب و يعطيه الباقي 
وسام باستغراب :تبدو مرتباً على غير عادتك .. 
ينظر فادي إلى نفسه : هل ابدو سيئاً ؟ 
وسام يضحك بخفة ثم يسأل بهدوء : ممم أأنت ذاهب إلى بثينة ؟ 
لحظة صمت كئيبة ، يخترقها صوت فادي المتقطع
فادي : آه نعم ، إنه اليوم كما تعلم .. 
وسام بتعابير حزينه : هكذا اذاً ، لقد مضت سنة بالفعل
فادي يتمتم : نعم ، سنة مرت ، و كأنها قرن
وسام نافياً : لم اقصد ذلك ، لكن الايام تمضي بسرعه كما تعلم ..

يمد يده ليعطيه لباقي 

وسام بابتسامة : بلغها تحياتي و قل لها أنني وجدت البديل المناسب
فادي يرفع حاجبيه : بالتأكيد ستجد بديلاً !
يتجه للمخرج وسام ينادي فجأة : فادي ! لا تنسى الليلة حفلة العشاء مع الاصدقاء  !!
فادي غير مبالياً بالموضوع : أوه حقاً ؟ شكراً للتذكير ..
وسام بخيبة أمل : هل نسيت بالفعل ؟ أنه لم شملنا كيف تنساه 
فادي يلوح بالباقة : لدي أشياء أهم لأتذكرها 

يخرج من المحل و يغلق الباب خلفه

وسام : لم يتغير ابداً ..

و يعود للعمل يغلق باب المحل خلفه 

يتنهد بصوت عالٍ ثم ينظر إلى السماء اللتي لا تزال مغيمة ، ينظر إلى الباقة و يبتسم ثم يكمل طريقه 

: بثينة ، لطالما احببتِ الخزامى ، عندما كنتِ المسؤولة في نادي الزراعة ، كل ما زرعتِه هو أزهار الخزامى الزرقاء بدت و كأنها انعكاس سماء ساعات السحر على بحيرة . و ايضاً عندما اعترف لكِ وسام و أحضر معه باقة من ازهار الخزامى ، سعدتِ كثيراً ، كنت أعلم أنكِ لم تسعدي بالاعتراف بحجم سعادتكِ بالأزهار ، لكنني ما زلت غاضباً أو بالأحرى غيوراً منه ، لأنه رآى أبتسامتكِ اللطيفة . و حتى يوم زواجنا ، كانت أزهار الخزامى هي مابين يديكِ و كأنها روح ترافقكِ حيث ما ذهبتِ ، و زينتي شقتنا بتلكَ الأزهار ، لا أعرف لكن حتى الأن كلما أرى تلك الأزهار أشعر بقربكِ



" آين المفآآتيح ؟! " 
توقف عند تقاطع الإشارة حيث كانت حمراء نظر إلى المحل الذي خلفه ، كان مطعم عائلي ، تنهد و نظر إلى الباقة مجدداً و كأنه يهمس لها : اتذكرين ؟ تظهر ابتسامة على محياه مع ظهور الاشارة خضراء ، أكمل فادي طريقه و ذكرى مضحكة تمر على باله 

: بثينة ، أتذكرين عندما ذهبنا لتناول العشاء هنا ؟ لم يكن عشاءً طبيعياً او رومنسياً ، بل كان يوماً حافل بالمتاعب. أذكر انكِ لم تطهي العشاء بسبب عدم وجود المكونات اللازمة ، و كان حلنا الوحيد الذهاب لتناول العشاء في الخارج مع أن أحد الشروط التي اشترطتها ألا نتناول العشاء من الخارج طالما تستطيعين الطهي ، تناولنا العشاء و دفعنا الحساب

بثينة : آآه اشعر بالشبع ، لنتجول قليلا هنا و هناك
فادي : أنظري كم الساعة الآن ، يجب أن أستيقظ غداً صباحاً لتسليم المخطوطة
بثينه : ألن يأتي المحرر ليأخذها ؟ 
فادي : ألم اخبركِ بأنه مريض ؟ 
بثينة : لا عليك إن لزم الأمر سأذهب لتسليمها بالنيابة عنك ، لذا دعنا نتجول قليلاً 
فادي : حسناً لساعة فقط 

تجولنا لساعات طوال، تمنيت في تلك اللحظة أن يتوقف بنا الوقت و نبقى معاً ، و عندما رجعنا للشقة حيث كانت الساعة تشير إلى منتصف الليل

فادي : بثينة ، المفتاح 
بثينه : مفتاح ؟ 
فادي : توقفي عن المزاح اشعر بالتعب 
بثينه : أنا أعني ذلك ، اي مفتاح ؟ 
فادي : بثينة !! مفتاح الشقة و ما غيره ؟ 
بثينه تضرب رأسها : تباً 
فادي : ماذا الآن ؟ 
بثينة : مفتاح الشقه في الحقيبه !!
فادي بصدمة : و أين الحقيبة ؟ 
بثينة : أظن أنني نسيتها في مطعم 
فادي : مااااذااااااا !! 

كانت تلك الليلة باردة جداً ، و كنت متعباً ايضاً ، اتجهنا إلى ذلك المطعم إلا أنه كان مقفلاً و لا يوجد أحد فيه ، اضطررنا للانتظار عند الباب الخلفي للمطعم ربما يأتي أحد أو يخرج أحد ، و كما توقعنا ، عند ساعات الصباح الأولى أتى صاحب المطعم و تفاجئ بوجودنا و عندما أخبرناه أسرع بإدخالنا و حضر لنا شاياً ساخناً ، كانت اصابعي زرقاء بينما ما تزال يديك دافئه ، شعرت بالإحباط قليلاً ، و إلى أن دفئت اجسادنا قليلاً أسرعت إلى شقتنا و سلمت المخطوطة و تركت باقي العمل على المدقق بينما كنت ألازم الفراش من المرض ، أصبت بالبرد بينما كنتِ بكامل عافيتك ، مما زادني احباطاً .. 



" ذگرى مؤلِمة "
توقف عند حديقه عامة حيث يلعب الاطفال ، ذهب و جلس على أحد الارجوحات و ظل يتأرجح قليلاً قليلا ، مر طفل صغير من أمام فادي ،أطرق و ظل ينظر إلى حذاءه و أعاد ربطه مجدداً

: بثينة ، لطالما اردتِ أن يكون لدينا العديد من الأطفال ، و لكن ذلك خيب أملنا بعد اكتشاف ذلك المرض الذي أصابك و الذي أعاق كل ما تمنينا أن نصبو إليه ، كنتِ حزينة جداً ، ربما كانت تلك المرة الأولى التي أراكِ فيها برداء من اليأس ، لكن سرعان ما عاد إليكِ بصيص الأمل ، و أكملنا حياتنا و كأن شيئاً لم يكن ، و رفضتِ العلاج ايضاً ، و إلى يومي هذا لازلت أجهل سبب ذلك

ينهض خارجاً من الحديقة العامة ، مبتعداً عنها ببضع مترات ..

: و في تلك الليلة كنتِ تصفين لي فطوراً شهياً أردتِ إعداده في الصباح ، و لا زلت أجهل ما هو و لكنني اشتهيته بالفعل . استيقظت صبيحة العاشر من فبراير على مشهد أليم إعتصر قلبي، حبس انفاسي ، انتزع روحي من محلها ، أراك تحدقين فالفراغ و لا تستجيبين لي ، كنتِ في تلك اللحظة يا بثينة قد غادرتِ العالم الذي كنا نعيش فيه معاً تاركة خلفك ذكرياتنا الثمينة ، و منذ ذلك اليوم و انا أحفر خنادق و أدفن نفسي بها كي أتجاهل حقيقة فقدانكِ الأبدي ، لكن يا عزيزتي ...

يقف أمام قبر ، يضع باقة الخزامى و يجلس ، يمسح على قبرها و يزيل اوراق الشجر المتساقطة ، اغرورقت عيناه بالدمع ، يحاول أن ينطق بشيء ما ، لكنه يشعر و كأن حاجز خانق عند حلقه ، يمسك بحفنة من التراب من تراب قبرها و يقول بصوت منخفض متقطع 

: بثينة ، أريـ .. أريدكِ ، هنا بـ .. بجانبي الآن 

فاضت عيناه بالدمع منذ اللحظة التي نطق بها ، يصك أسنانه بقوة و يغطي على عينيه ، أخرج كل ما في نفسه من حزن مكتوم ، أطلق العنان لمشاعر حبست من ساعات فراق مبكية مؤلمة  ، لدرجة أنه لم يلحظ بأن وسام كان خلفه .. 



" هذا هو ابننا "
إنه العاشر من فبراير مجدداً ، مرت سنة على ذلك اليوم و ها انا اقاد إليك مجدداً ، و لكن بحوزتي صفحات كنزت لحظات بين اللقاء و الفراق ، ها أنا آخذه إليك كي اريك ما اثمرت به تلك اللحظات ، قد يبدو الامر مضحكاً قليلاً ، و لكنني اشعر بأن هذا الكتاب هو ابننا الذي ولد من اللحظات التي عشناها ، حب ، مشاعر ، ألفة ، حزن ، آسى ، كلها بين طيات هذا الكتاب . سأتركه بحوزتك ، لذا استمتعي بالقراءة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق